فصل: تفسير الآيات رقم (21- 24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏14‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم‏}‏ يعني المنافقين تولوا قوماً غضب الله عليهم هم اليهود‏.‏

‏{‏ما هم منكم‏}‏ لأجل نفاقهم‏.‏

‏{‏ولا منهم‏}‏ لخروجهم بيهوديتهم‏.‏

‏{‏ويحلفون على الكذب‏}‏ أنهم لم ينافقوا‏.‏

‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أنهم منافقون‏.‏

‏{‏اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ عن سبيل الله في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ صدوا عن الجهاد ممايلة لليهود‏.‏

‏{‏استحوذ عليهم الشيطان‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قوي عليهم‏.‏

الثاني‏:‏ أحاط بهم، قاله المفضل‏.‏

وفيه ثالث‏:‏ أنه غلب واستولى عليهم في الدنيا‏.‏

‏{‏فأنساهم ذكر الله‏}‏ يحتمل ذكر الله ها هنا وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أوامره في العمل بطاعته‏.‏

الثاني‏:‏ زواجره في النهي عن معصيته‏.‏

ويحتمل ما أنساهم من ذكره وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بالغفلة عنها‏.‏

الثاني‏:‏ بالشرك بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من حارب الله ورسوله، قاله قتادة والفراء‏.‏

الثاني‏:‏ من خالف الله ورسوله، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ من عادى الله ورسوله، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم‏}‏ اختلف فيمن نزلت هذه الآية فيه على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما قاله ابن شوذب‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم بدر، جعل يتصدى له، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله‏.‏

وروى سعيد بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخاره، قال سعيد‏:‏ وفيه نزلت هذه الآية‏.‏

وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خارج مخرج النهي للذين آمنوا أن يوادوا من حادّ الله ورسوله‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خارج مخرج الصفة لهم والمدح بأنهم لا يوادون من حادّ الله ورسوله، وكان هذا مدحاً‏.‏

‏{‏أولئك كتب في قلوبهم الإيمان‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه جعل في قلوبهم الإيمان وأثبته، قال السدي، فصار كالمكتوب‏.‏

الثاني‏:‏ كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان‏.‏

الثالث‏:‏ حكم لقلوبهم بالإيمان‏.‏

الرابع‏:‏ أنه جعل في قلوبهم سمة للإيمان على أنهم من أهل الإيمان، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏وأيدهم بروح منه‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أعانهم برحمته، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أيدهم بنصره حتى ظفروا‏.‏

الثالث‏:‏ رغبهم في القرآن حتى ءامنوا‏.‏

الرابع‏:‏ قواهم بنور الهدى حتى صبروا‏.‏

الخامس‏:‏ قواهم بجبريل يوم بدر‏.‏

‏{‏رضي الله عنهم‏}‏ يعني في الدنيا بطاعتهم‏.‏

‏{‏ورضوا عنه‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ رضوا عنه في الآخرة بالثواب‏.‏

الثاني‏:‏ رضوا عنه في الدنيا بما قضاه عليهم فلم يكرهوه‏.‏

‏{‏أولئك حزب الله‏}‏ فيهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ انهم من عصبة الله فلا تأخذهم لومة لائم‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أنصار حقه ورعاة خلقه وهو محتمل‏.‏

القول الثاني‏:‏ ما روى ابن جريج أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وقد سمع أباه أبا قحافة يسب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط على وجهه، فقال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «أو فعلته‏؟‏ لا تعد إليه يا أبا بكر»‏.‏

فقال والله لو كان السيف قريباً مني لضربته به، فنزلت هذه الآية‏.‏

القول الثالث‏:‏ ما حكى الكلبي ومقاتل أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقد كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح‏.‏

سورة الحشر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏2‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏4‏)‏ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ يعني يهود بني النضير‏.‏

‏{‏من ديارهم‏}‏ يعني من منازلهم‏.‏

‏{‏لأول الحشر‏}‏ أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من أُحد إلى أذرعات الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيراً يحملون عليه ما استقل إلا السلاح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم حين هاجر إلى المدينة أن لا يقاتلوا معه ولا عليه، فكفوا يوم بدر لظهور المسلمين، وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا ظهورهم على المسلمين، فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف، قتله محمد بن مسلمة غيلة‏.‏ ثم سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم ثلاثاً وعشرين ليلة محارباً حتى أجلاهم عن المدينة‏.‏

في قوله‏:‏ ‏{‏لأول الحشر‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لأنهم أول من أجلاه النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود، قاله ابن حبان‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه اول حشرهم، لأنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في القيامة، قاله الحسن‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أجلى بني النضير قال لهم «امضوا فهذا أول الحشر وأنا على الأثر‏.‏»

الثالث‏:‏ أنه أول حشرهم لما ذكره قتادة أنه يأتي عليهم بعد ذلك من مشرق الشمس نار تحشرهم إلى مغربها تبيت معهم إذ باتوا ‏[‏وتقيل معهم حيث قالوا‏]‏ وتأكل منهم من تخلف‏.‏

‏{‏ما ظننتم أن يخرجوا‏}‏ يعني من ديارهم لقوتهم وامتناعهم‏.‏

‏{‏وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله‏}‏ أي من أمر الله‏.‏

‏{‏فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لم يحتسبوا بأمر الله‏.‏

الثاني‏:‏ قاله ابن جبير والسدي‏:‏ من حيث لم يحتسبوا بقتل ابن الأشرف‏.‏

‏{‏وقذف في قلوبهم الرعب‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لخوفهم من رسول الله‏.‏

الثاني‏:‏ بقتل كعب بن الأشرف‏.‏

‏{‏يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بأيديهم بنقض الموادعة، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة، قاله الزهري‏.‏

الثاني‏:‏ بأيديهم في تركها، وأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، قاله أبو عمرو ابن العلاء‏.‏

الثالث‏:‏ بأيديهم في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذها المسلمون، وبأيدي المؤمنين في إخراب ظواهرها ليصلوا بذلك إليهم‏.‏

قال عكرمة‏:‏ كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل، وخربها المسلمون من خارج‏.‏

الرابع‏:‏ معناه‏:‏ أنهم كانوا كلما هدم المسلمون عليهم من حصونهم شيئاً نقضوا من بيوتهم ما يبنون به من حصونهم، قاله الضحاك‏.‏

الخامس‏:‏ أن تخريبهم بيوتهم أنهم لما صولحوا على حمل ما أقلته إبلهم جعلوا ينقضون ما أعجبهم من بيوتهم حتى الأوتار ليحملوها على إبلهم، قاله عروة بن الزبير، وابن زيد‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏يخربون‏}‏ قراءتان‏:‏ بالتخفيف، وبالتشديد، وفيهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معناهما واحد وليس بينهما فرق‏.‏

الثاني‏:‏ أن معناهما مختلف‏.‏

وفي الفرق بينهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بأفعالهم، ومن قرأ بالتخفيف أراد إخرابها بفعل غيرهم قاله أبو عمرو‏.‏

الثاني‏:‏ أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بهدمهم لها‏.‏ وبالتخفيف أراد فراغها بخروجهم عنها، قاله الفراء‏.‏

ولمن تعمق بغوامض المعاني في تأويل ذلك وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يخربون بيوتهم أي يبطلون أعمالهم بأيديهم، يعني باتباع البدع، وأيدي المؤمنين في مخالفتهم‏.‏

‏{‏ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني بالجلاء الفناء ‏{‏لعذبهم في الدنيا‏}‏ بالسبي‏.‏

والثاني‏:‏ يعني بالجلاء الإخراج عن منازلهم ‏{‏لعذبهم في الدنيا‏}‏ يعني بالقتل، قاله عروة‏.‏

والفرق بين الجلاء والإخراج- وإن كان معناهما في الإبعاد واحد- من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد‏.‏

الثاني‏:‏ أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لجماعة ولواحد‏.‏

‏{‏ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله‏}‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد قطع المسلمون من نخلهم وأحرقوا ست نخلات، وحكى محمد بن إسحاق أنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره، إما لإضعافهم بها أو لسعة المكان بقطعها، فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل كتاب‏:‏ يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الإصلاح‏؟‏ أفمن الصلاح حرق الشجر وقطع النخل‏؟‏ وقال شاعرهم سماك اليهودي‏:‏

ألسنا ورثنا كتاب الحكيم *** على عهد موسى ولم نصدف

وانتم رعاء لشاء عجاف *** بسهل تهامة والأخيف

ترون الرعاية مجداً لكم *** لدي كل دهر لكم مجحف

فيا أيها الشاهدون انتهوا *** عن الظلم والمنطق المؤنف

لعل الليالي وصرف الدهور *** يدلن عن العادل المنصف

بقتل النضير وإجلائها *** وعقر النخيل ولم تقطف

فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

هم أوتوا الكتاب فضيعوه *** وهم عمي عن التوارة يور

كفرتم بالقرآن وقد أتيتم *** بتصديق الذي قال النذير

وهان على سراة بني لؤي *** حريق بالبويرة مستطير

ثم إن المسلمين جل في صدورهم ما فعلوه، فقال بعضهم‏:‏ هذا فساد، وقال آخرون منهم عمر بن الخطاب‏:‏ هذا مما يجزي الله به أعداءه وينصر أولياءه فقالوا يا رسول الله هل لنا فيما قطعنا من أجر‏؟‏ وهل علينا فيما تركنا من وزر‏؟‏ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وما قطعتم من لينة‏}‏ الآية‏.‏ وفيه دليل على أن كل مجتهد مصيب‏.‏

وفي اللينة خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ النخلة من أي الأصناف كانت، قاله ابن حبان‏.‏

الثاني‏:‏ أنها كرام النخل، قاله سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ أنها العجوة خاصة، قاله جعفر بن محمد وذكر أن العتيق والعجوة كانا مع نوح في السفينة، والعتيق الفحل، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ولذلك شق على اليهود قطعها‏.‏

الرابع‏:‏ أن اللينة الفسيلة لأنها ألين من النخلة، ومنه قول الشاعر‏:‏

غرسوا لينها بمجرى معين *** ثم حفوا النخيل بالآجام

الخامس‏:‏ أن اللينة جميع الأشجار للينها بالحياة، ومنه قول ذي الرمة‏:‏

طراق الخوافي واقع فوق لينة *** ندى ليلة في ريشه يترقرق

قال الأخفش‏:‏ سميت لينة اشتقاقاً من اللون لا من اللين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وما أفاء الله على رسوله منهم‏}‏ يعني ما رده اللَّه على رسوله من أموال بني النضير‏.‏

‏{‏فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب‏}‏ والإيجاف الإيضاع في السير وهو الإسراع، والركاب‏:‏ الإبل، وفيهما يقول نصيب‏:‏

ألارب ركب قد قطعت وجيفهم *** إليك ولولا أنت لم توجف الركب

‏{‏ولكن الله يسلط رسله على من يشاء‏}‏ ذلك أن مال الفيء هو المأخوذ من المشركين بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، فجعل الله لرسوله أن يضعه حيث يشاء لأنه واصل بتسليط الرسول عليهم لا بمحاربتهم وقهرهم‏.‏ فجعل الله ذلك طعمة لرسوله خالصاً دون الناس، فقسمه في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة فإنهما ذكرا فقراً فأعطاهما‏.‏

‏{‏كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم‏}‏ يقال دولة بالضم وبالفتح وقرئ بهما، وفيهما قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهما واحد، قاله يونس، والأصمعي‏.‏

الثاني‏:‏ أن بينهما فرقاً، وفيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه بالفتح الظفر في الحرب، وبالضم الغنى عن فقر، قاله أبو عمرو ابن العلاء‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بالفتح في الأيام، وبالضم في الأموال، قاله عبيدة‏.‏

الثالث‏:‏ أن بالفتح ما كان كالمستقر، وبالضم ما كان كالمستعار، حكاه ابن كامل‏.‏

الرابع‏:‏ أنه بالفتح الطعن في الحرب، وبالضم أيام الملك وأيام السنين التي تتغير، قاله الفراء، قال حسان‏:‏

ولقد نلتم ونلنا منكم *** وكذاك الحرب أحياناً دول

‏{‏وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ ما آتاكم الله من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عنه من الغلو فلا تفعلوه، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ وما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه، قاله ابن جريج‏.‏

الرابع‏:‏ أنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه لأنه لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد‏.‏

وحكى الكلبي أنها نزلت في رؤساء المسلمين قالوا فيما ظهر عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أموال المشركين، يا رسول الله صفيك والربع ودعنا والباقي فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوه‏:‏

لك المرباع منها والصفايا *** وحكمك والنشيطة والفضول‏.‏

فأنزل الله هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم‏}‏ يعني بالمهاجرين من هاجر عن وطنه من المسليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار هجرته وهي المدينة خوفاً من أذى قومه ورغبة في نصرة نبيّه فهم المقدمون في الإسلام على جميع أهله‏.‏

‏{‏يبتغون فضلاً من الله ورضواناً‏}‏ يعني فضلاً من عطاء الله في الدنيا، ورضواناً من ثوابه في الآخرة‏.‏

ويحتمل وجهاً ثانياً‏:‏ أن الفضل الكفاية، والرضوان القناعة‏.‏

وروى علي بن رباح اللخمي أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال‏:‏ من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقة فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً، إني بادئ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا‏.‏

قال قتادة‏:‏ لأنهم اختاروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما كانت من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها‏.‏

‏{‏والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم‏}‏ ويكون على التقديم والتأخير ومعناه تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان‏.‏

الثاني‏:‏ أن الكلام على ظاهره ومعناه أنهم تبوءوا الدار والإيمان قبل الهجرة إليهم يعني بقبولهم ومواساتهم بأموالهم ومساكنهم‏.‏

‏{‏يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ غيرة وحسداً على ما قدموا به من تفضيل وتقريب، وهو محتمل‏.‏

الثاني‏:‏ يعني حسداً على ما خصوا به من مال الفيء وغيره فلا يحسدونهم عليه، قاله الحسن‏.‏

‏{‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏}‏ يعني يفضلونهم ويقدمونهم على أنفسهم ولو كان بهم فاقة وحاجة، ومنه قول الشاعر‏:‏

أما الربيع إذا تكون خصاصة *** عاش السقيم به وأثرى المقتر

وفي إيثارهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم آثروا على أنفسهم بما حصل من فيئ وغنيمة حتى قسمت في المهاجرين دونهم، قاله مجاهد، وابن حيان‏.‏

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم على المهاجرين ما أفاء الله من النضير ونفل من قريظة على أن يرد المهاجرون على الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم فقالت الأنصار بل نقيم لهم من أموالنا ونؤثرهم بالفيء، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم آثروا المهاجرين بأموالهم وواسوهم بها‏.‏

روى ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ «إن إخوانكم تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم» فقالوا‏:‏ أموالنا بينهم قطائع، فقال‏:‏ «أو غير ذلك»‏؟‏ فقالوا‏:‏ وما ذاك يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏

«هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر» يعني مما صار إليهم من نخيل بني النضير، قالوا نعم يا رسول الله‏.‏

‏{‏ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ فيه ثماينة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذا الشح هو أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ولا يقنع، قاله ابن جريج وطاووس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه منع الزكاة، قاله ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ يعني هوى نفسه، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه اكتساب الحرام، روى الأسود عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال‏:‏ إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال وما ذاك‏؟‏ قال سمعت الله عز وجل يقول‏:‏

‏{‏ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً فقال ابن مسعود‏:‏ ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل‏.‏

الخامس‏:‏ أنه الإمساك عن النفقة، قاله عطاء‏.‏

السادس‏:‏ أنه الظلم، قاله ابن عيينة‏.‏

السابع‏:‏ أنه أراد العمل بمعاصي الله، قاله الحسن‏.‏

الثامن‏:‏ أنه أراد ترك الفرائض وانتهاك المحارم، قاله الليث‏.‏

وفي الشح والبخل قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن معناهما واحد‏.‏

الثاني‏:‏ أنهما يفترقان وفي الفرق بينهما وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الشح أخذ المال بغير حق، والبخل أن يمنع من المال المستحق، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ أن الشح بما في يدي غيره، والبخل بما في يديه، قاله طاووس‏.‏

‏{‏والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الذين هاجروا بعد ذلك، قاله السدي والكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم التابعون الذين جاءوا بعد الصحابة ثم من بعدهم إلى قيام الدنيا هم الذين جاءوا من بعدهم، قاله مقاتل‏.‏

وروى مصعب بن سعد قال‏:‏ الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت الثالثة‏:‏ فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت‏.‏

وفي قولهم‏:‏ ‏{‏اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أمروا أن يستغفروا لمن سبق من هذه الأمة ومن مؤمني أهل الكتاب‏.‏ قالت عائشة‏:‏ فأمروا أن يستغفروا لهم فسبّوهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار‏.‏

‏{‏ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا‏}‏ الآية‏.‏ في الغل وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الغش، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ العداوة، قاله الأعمش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏12‏)‏ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏بأسهم بينهم شديد‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه وعيدهم للمسلمين لنفعلن كذا وكذا، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏تحسبهم جيمعاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم اليهود‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم المنافقون واليهود، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وقلوبهم شتى‏}‏ يعني مختلفة متفرقة، قال الشاعر‏:‏

إلى الله أشكو نية شقت العصا *** هي اليوم شتى وهي بالأمس جمع

وفي قراءة ابن مسعود «وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ» بمعنى أشد تشتيتاً، أي أشد اختلافاً‏.‏

وفي اختلاف قلوبهم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنهم على باطل، والباطل مختلف، والحق متفق‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم على نفاق، والنفاق اختلاف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الذين من قبلهم قريباً‏}‏ الآية‏.‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم قتلى بدر، قاله السدي، ومقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم بنو النضير الذين أجلوا من الحجاز إلى الشام، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم بنو قريظة، كان قبلهم إجلاء بني النضير‏.‏

‏{‏ذاقوا وبال أمرهم‏}‏ بأن نزلوا على حكم سعد ‏[‏بن معاذ‏]‏ فحكم فيهم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم، قاله الضحاك‏.‏ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في تجارتهم‏.‏

الثاني‏:‏ في نزول العذاب بهم‏.‏

‏{‏كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مثل ضربه الله الكافر في طاعته للشيطان، وهو عام في الناس كلهم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها خاصة في سبب خاص صار به المثل عاماً، وذلك ما رواه عطية العوفي عن ابن عباس أن راهباً كان في بني إسرائيل يعبد الله فيحسن عبادته، وكان يؤتى من كل أرض يسأل عن الفقه وكان عالماً، وأن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت من أحسن النساء مريضة، وأنهم أرادوا سفراً فكبر عليهم أن يذروها ضائعة، فجعلوا يأتمرون فيما يفعلون، فقال أحدهم‏:‏ ألا أدلكم على من تتركونها عنده‏؟‏ فقال له من‏؟‏ فقال‏:‏ راهب بني إسرائيل، وإن مات قام عليها، وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه، فعمدوا إليه وقالوا‏:‏ إنا نريد السفر وإنا لا نجد أحداً أوثق في أنفسنا منك ولا آمن علينا غيرك، فاجعل أختنا عندك فإنها ضائعة مريضة، فإن ماتت فقم عليها، وإن عاشت فاحفظها حتى نرجع، فقال‏:‏ أكفيكم إن شاء الله، وإنهم انطلقوا، فقام عليها وداواها حتى برئت فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها وحبلت، ثم تقدم منه الشيطان فزين له قتلها وقال‏:‏ إن لم تفعل افتضحت، فقتلها‏.‏

فلما عاد إخوتها سألوه عنها فقال‏:‏ ماتت فدفنتها، قالوا أحسنت، فجعلوا يرون في المنام أن الراهب قتلها وأنها تحت شجرة كذا، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها قد قتلت، فأخذوه، فقال له الشيطان‏:‏ أنا الذي زينت لك قتلها بعد الزنى فهل لك أن أنجيك وتطيعني‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال فاسجد لي سجدة واحدة، فسجد ثم قتل، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الشيطان‏}‏ فكذا المنافقون وبنو النضير مصيرهم إلى النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله‏}‏ روى معن أو عون ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال‏:‏ اعهد لي، فقال‏:‏ إذا سمعت الله يقول‏:‏ ‏{‏يأيها الين ءامنوا‏}‏ فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه‏.‏

وفي هذه التقوى وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ اجتناب المنافقين‏.‏

الثاني‏:‏ هو اتقاء الشبهات‏.‏

‏{‏ولتنظر نفس ما قدمت لغد‏}‏ قال ابن زيد‏:‏ ما قدمت من خير أو شر‏.‏

‏{‏لغد‏}‏ يعني يوم القيامة والأمس‏:‏ الدنيا‏.‏ قال قتادة‏:‏ إن ربكم قدم الساعة حتى جعلها لغد‏.‏

‏{‏واتقوا الله‏}‏ في هذه التقوى وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها تأكيد للأولى‏.‏

والثاني‏:‏ أن المقصود بها مختلف وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأولى التوبة مما مضى من الذنوب، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأولى فيما تقدم لغد، الثانية فيما يكون منكم‏.‏

‏{‏إن الله خبير بما تعملون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله خبير بعملكم‏.‏

الثاني‏:‏ خبير بكم عليم بما يكون منكم، وهو معنى قول سعيد بن جبير‏.‏

‏{‏ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ نسوا الله أي تركوا أمر الله، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً، قاله ابن حبان‏.‏

الثاني‏:‏ نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم، قاله سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً، حكاه ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة، قاله سهل‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد‏.‏

‏{‏أولئك هم الفاسقون‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ العاصون‏:‏ قاله ابن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ الكاذبون، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يستوون في أحوالهم، لأن أهل الجنة في نعيم، وأهل النار في عذاب‏.‏

الثاني‏:‏ لا يستوون عند الله، لأن أهل الجنة من أوليائه، وأهل النار من أعدائه‏.‏

‏{‏أصحاب الجنة هم الفائزون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المقربون المكرمون‏.‏

الثاني‏:‏ الناجون من النار، قاله ابن حبان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏لو أنزلنا هذا القرءآن على جبل‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إننا لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لما ثبت له بل انصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال‏.‏

الثاني‏:‏ أنه خطاب للأمة، وأن الله لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً، فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدرعلى رده إن عصى، لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب‏.‏

وفيه قول ثالث‏:‏ إن الله تعالى ضربه مثلاً للكفار أنه إذا نزل هذا القرآن على جبل خشع لوعده وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المقهروون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده‏.‏

‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو‏}‏ كان جابر بن زيد يرى أن اسم الله الأعظم هو الله، لمكان هذه الآية‏.‏

‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ عالم السر والعلانية، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ عالم ما كان وما يكون‏.‏

الثالث‏:‏ عالم ما يدرك وما لا يدرك من الحياة والموت والأجل والرزق‏.‏

الرابع‏:‏ عالم بالآخرة والدنيا، قاله سهل‏.‏

‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس‏}‏ في ‏{‏القدوس‏}‏ أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المبارك، قاله قتادة، ومنه قول رؤبة‏:‏

دعوت رب العزة القدوسا *** دعاء من لا يقرع الناقوسا

الثاني‏:‏ أنه الطاهر، قاله وهب، ومنه قول الراجز‏:‏

قد علم القدوس مولى القدوس‏.‏ *** الثالث‏:‏ أنه اسم مشتق من تقديس الملائكة، قاله ابن جريج، وقد روي أن من تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح‏.‏

الرابع‏:‏ معناه المنزه عن القبائح لاشتقاقه من تقديس الملائكة بالتسبيح فصار معناهما واحد‏.‏

وأما ‏{‏السلام‏}‏ فهو من أسمائه تعالى كالقدوس، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مأخوذ من سلامته وبقائه، فإذا وصف المخلوق بمثله قيل سالم وهو في صفة الله سلام، ومنه قول أمية بن أبي الصلت‏:‏

سلامك ربنا في كل فجر *** بريئاً ما تعنتك الذموم

الثاني‏:‏ أنه مأخوذ من سلامة عباده من ظلمه، قاله ابن عباس‏.‏

‏[‏وفي ‏{‏المؤمن‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ الذي يؤمن أولياءه من عذابه‏]‏ الثاني‏:‏ أنه مصدق خلقه في وعده، وهو معنى قول ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الداعي إلى الإيمان، قاله ابن بحر‏.‏

وأما ‏{‏المهيمن‏}‏ فهو من أسمائه أيضاً، وفيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه الشاهد على خلقه بأعمالهم، وعلى نفسه بثوابهم، قاله قتادة، والمفضل، وأنشد قول الشاعر‏:‏

شهيد عليَّ الله أني أحبها *** كفى شاهداً رب العباد المهيمن

والثاني‏:‏ معناه الأمين، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ المصدق، قاله ابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الحافظ، حكاه ابن كامل، وروي أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ إني داع فهيمنوا، أي قولوا آمين حفظنا الدعاء، لما يرجى من الإجابة‏.‏

الخامس‏:‏ الرحيم، حكاه ابن تغلب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت‏:‏

مليك على عرش السمآء مهيمن *** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

‏{‏العزيز‏}‏ هو القاهر، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ العزيز في امتناعه‏.‏

الثاني‏:‏ في انتقامه‏.‏

‏{‏الجبار‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه العالي العظيم الشأن في القدرة والسلطان‏.‏

الثاني‏:‏ الذي جبر خلقه على ما شاء، قاله أبو هريرة، والحسن، وقتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الذي يجبر فاقة عباده، قاله واصل بن عطاء‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الذي يذل له من دونه‏.‏

‏{‏المتكبر‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ المتكبر عن السيئات، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ المستحق لصفات الكبر، والتعظيم، والتكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم‏.‏

الثالث‏:‏ المتكبر عن ظلم عباده‏.‏

‏{‏هو الله الخالق‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه المحدِث للأشياء على إرادته‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المقدر لها بحكمته‏.‏

‏{‏الْبَارِئ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المميز للخلق، ومنه قوله‏:‏ برئت منه، إذا تميزت منه‏.‏

الثاني‏:‏ المنشئ للخلق، ومنه قول الشاعر‏:‏

براك الله حين براه غيثاً *** ويجري منك أنهاراً عذاباً

‏{‏المصور‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لتصوير الخلق على مشيئته‏.‏

الثاني‏:‏ لتصوير كل جنس على صورته‏.‏ فيكون على الوجه الأول محمولاً على ابتداء الخلق بتصوير كل خلق على ما شاء من الصور‏.‏ وعلى الوجه الثاني يكون محمولاً على ما استقر من صور الخلق، فيحدث خلق كل جنس على صورته وفيه على كلا الوجهين دليل على قدرته‏.‏

ويحتمل وجهاً ثالثاً‏:‏ أن يكون لنقله خلق الإنسان وكل حيوان من صورة إلى صورة، فيكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير شيخاً هرماً، كما قال النابغة‏:‏

الخالق البارئ المصور في ال *** أرحام ماء حتى يصير دماً

‏{‏له الأسماء الحسنى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن جميع أسمائه حسنى لاشتقاقه من صفاته الحسنى‏.‏

الثاني‏:‏ أن له الأمثال العليا، قاله الكلبي‏.‏

سورة الممتحنة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏}‏ سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرد التوجه إلى مكة أظهر أنه يريد خيبر، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إليهم وأرسل مع امرأة ذكر أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأنفذ علياً وأبا مرثد، وقيل عمر بن الخطاب، وقيل الزبير رضي الله عنهم، وقال لهما، اذهبا إلى روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذاه وعودا، فأتيا الموضع فوجداها والكتاب معها، فأخذاه وعادا، فإذا هو كتاب حاطب فقال عمر‏:‏ ائذن لي يا رسول الله أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً، فقالوا‏:‏ بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم إني بما تعملون خبير‏.‏ ففاضت عينا عمر وقال‏:‏ الله ورسوله أعلم ‏[‏ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب‏]‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله كنت امرأ مصلقاً من قريش وكان لي بها مال فكتبت إليهم بذلك، والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب فلا تقولوا له إلآ خيراً‏.‏ فنزلت هذه الآية والتي بعدها‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تسرون إليهم بالمودة‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تعلمونهم سراً أن بينكم وبينهم مودة‏.‏

الثاني‏:‏ تعلمونهم سراً بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم بمودة بينكم وبينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏قد كانت لكم أسوة حسنة‏}‏ ذكر الكلبي والفراء أنه أراد حاطب بن أبي بلتعة، وفيها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ سنة حسنة، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ عبرة حسنة، قاله ابن قتيبة‏.‏

‏{‏في إبراهيم والذين معه‏}‏ من المؤمنين‏.‏

‏{‏إذ قالوا لقومهم‏}‏ يعني من الكفار‏.‏

‏{‏إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله‏}‏ فتبرؤوا منهم فهلا تبرأت أنت يا حاطب من كفار أهل مكة ولم تفعل ما فعلته من مكاتبتهم وإعلامهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كفرنا بكم‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ كفرنا بما آمنتم به من الأوثان‏.‏

الثاني‏:‏ بأفعالكم وكذبنا بها‏.‏

‏{‏وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تأسوا بإبراهيم في فعله واقتدوا به إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به فيه، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ معناه إلا إبراهيم فإنه استثنى أباه من قومه في الاستغفار له، حكاه الكلبي‏.‏

‏{‏ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فنصير فتنة لهم فيقولوا لو كانوا على حق ما عذبوا، قاله مجاهد، وهذا من دعاء إبراهيم عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إسلام أبي سفيان‏.‏

وفي مودته التي صارت منه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين أبي سفيان، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً، فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين، فكانت هذه المودة، قاله الزهيري‏.‏

‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين‏}‏ الآية‏.‏ فيهم أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذا في أول الأمر عند موادعة المشركين، ثم نسخ بالقتال، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف كان لهم عهد فأمر الله أن يبروهم بالوفاء، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم النساء والصبيان لأنهم ممن لم يقاتل، فأذن الله تعالى ببرهم، حكاه بعض المفسرين‏.‏

الرابع‏:‏ ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

‏{‏وتقسطوا إليهم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني وتعدلوا فيهم، قاله ابن حبان فلا تغلوا في مقاربتهم، ولا تسرفوا في مباعدتهم‏.‏

الثاني‏:‏ معناه أن تعطوهم قسطاً من أموالكم، حكاه ابن عيسى‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنه الإنفاق على من وجبت نفقته منهم، ولا يكون اختلاف الدين مانعاً من استحقاقها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏يأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن‏}‏ لأنه يعلم بالامتحان ظاهر إيمانهن والله يعلم باطن إيمانهن، ليكون الحكم عليهن معتبراً بالظاهر وإن كان معتبراً بالظاهر والباطن‏.‏

والسبب في نزوله هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً عام الحديبة فقالت قريش على أن ترد علينا من جاءك منا، ونرد عليك من جاءنا منك، فقال على أن أرد عليكم من جاءنا منكم ولاتردوا علينا من جاءكم منا ممن اختار الكفر على الإيمان، فقعد الهدنة بينه وبينهم على هذا إلى أن جاءت منهم امرأة مسلمة وجاؤوا في طلبها، واختلف فيها على أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرت منه وهو يومئذ كافر، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبد الله، قاله يزيد بن أبي حبيب‏.‏

الثاني‏:‏ أنها سعيدة زوج صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهذا قول كثير من أهل العلم‏.‏

الرابع‏:‏ أنها سبيعة بنت الحارث الأسلمية جاءت مسلمة بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الهدنة في الحديبية، فجاء زوجها واسمه مسافر وهو من قومها في طلبها، فقال يا محمد شرطت لنا رد النساء، وطين الكتاب لم يجف، وهذه امرأتي فارددها عليّ، حكاه الكلبي‏.‏

فلما طلب المشركون رد من أسلم من النساء منع الله من ردهن بعد امتحان إيمانهن بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً‏:‏

فقالت طائفة منهم قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً، فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه، وأبقاه في الرجال على ما كان، وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد برأيه في الأحكام ولكن لا يقره الله تعالى على خطأ‏.‏

وقالت طائفة من أهل العلم‏:‏ لم يشترط ردهن في العقد لفظاً وإنما أطلق العقد في رد من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال، فبين الله خروجهن عن العموم، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنهن أرأف قلوباً وأسرع تقلباً منهم‏.‏

فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم، وقد كانت من أرادت منهن إضرار زوجها قالت سأهاجر إلى محمد فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتحانهن‏.‏

واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقويل‏:‏

أحدها‏:‏ ما رواه ابن عباس أنه كان يمتحنها بأن تحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا التماس دينا ولا عشقاً لرجل منا، وما خرجت إلا حباً لله ولرسوله‏.‏

والثاني‏:‏ بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قاله عطية العوفي‏.‏

الثالث‏:‏ بما بينه الله في السورة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات‏}‏ فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن‏}‏ يعني بما في قلوبهن بعد امتحانهن‏.‏

‏{‏فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ يعني أن المؤمنات محرمات على المشركين من عبدة الأوثان، والمرتدات محرمات على المسلمين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وءاتوهم ما أنفقوا‏}‏ يعني بما أنفقوا مهور من أسلم منهن إذا سأل ذلك أزواجهن، وفي دفع ذلك إلى أهلهن من غير أزواجهن قولان‏:‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم أن تنكحوهن‏}‏ يعني المؤمنات اللاتي أسلمن غير أزواج مشركين، أباح الله نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عدتهن أو كن غير مدخول بهن‏.‏

‏{‏إذا ءاتيتموهن أجورهن‏}‏ يعني مهورهن‏.‏

‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن العصمة الجمال قاله ابن قتيبة‏.‏

الثاني‏:‏ العقد، قاله الكلبي‏.‏

فإذا أسلم الكافر عن وثنية لم يمسك بعصمتها ولم يقم نكاحها رغبة فيها أو في قومها، فإن الله قد حرم نكاحها عليه والمقام عليها ما لم تسلم في عدتها‏.‏

فروى موسى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه أنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية طلقت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وطلق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن سفيان في الشرك، وطلق أم كلثوم بنت أبي جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها بعده خالد ابن سعيد بن العاص في الإسلام‏.‏

‏{‏واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ يعني أن للمسلم إذا ارتدت زوجته إلى المشركين من ذوي العهد المذكور أن يرجع عليه بمهر زوجته كما ذكرنا وأن للمشرك أن يرجع بمهر زوجته إذا أسلمت فإن لم يكن بيننا وبينهم عهد شرط فيه الرد فلا يرجع‏.‏

ولا يجوز لمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأئمة أن يشرط في عقد الهدنة رد من أسلم لأن الرسول كان على وعد من الله بفتح بلادهم ودخولهم في الإسلام طوعاً وكرهاً فجاز له ما لم يجز لغيره‏.‏

‏{‏وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار‏}‏ الآية‏.‏ والمعنى أن من فاتته زوجته بارتدادها إلى أهل العهد المذكور ولم يصل إلى مهرها منهم ثم غنمهم المسلمون ردوا عليه مهرها‏.‏

وفي المال الذي يرد منه هذا المهر ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ من أموال غنائمهم لاستحقاقها عليهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ من مال الفيء، قاله الزهري‏.‏

الثالث‏:‏ من صداق من أسلمن منهن عن زوج كافر، وهو مروي عن الزهري أيضاً‏.‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعاقبتم‏}‏ ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ معناه غنمتم لأخذه من معاقبة الغزو، قاله مجاهد والضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ معناه فأصبتم من عاقبة من قتل أو سبي، قاله سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ عاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرهامن غنائم المسلمين، قاله ابن بحر‏.‏

وهذا منسوخ لنسخ الشرط الذي شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالحديبية، وقال عطاء بل حكمها ثابت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً‏}‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح وبايعة الرجال جاءت النساء بعدهم للبيعة فبايعهن‏.‏

واختلف في بيعته لهن على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه جلس على الصفا ‏[‏ومعه عمر أسفل منه‏]‏ فأمره أن يبايع النساء، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أمر أميمة أخت خديجة خالة فاطمة بنت رسول الله بعد أن بايعته، أن تبايع النساء عنه، قاله محمد بن المنكدر عن أميمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه بايعهن بنفسه وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه، قاله عامر الشعبي‏.‏

وقيل بل وضع قعباً فيه ماء وغمس فيه يده وأمرهن فغمسن أيديهن، فكانت هذه بيعة النساء‏.‏

فإن قيل فما معنى بيعتهن ولسن من أهل الجهاد فتؤخذ عليهن البيعة كالرجال‏؟‏

قيل‏:‏ كانت بيعته لهن تعريفاً لهن بما عليهن من حقوق الله تعالى وحقوق أزواجهن لأنهن دخلن في الشرع ولم يعرفن حكمه فبينه لهن، وكان أول ما أخذه عليهن أن لا يشركن بالله شيئاً توحيداً له ومنعاً لعبادة غيره‏.‏

‏{‏ولا يسرقن‏}‏ فروى أن هند بنت عتبة كانت متنكرة عند أخذ البيعة على النساء خيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صنعته بحمزة وأكلها كبده، فقالت حين سمعته في أخذ البيعة عليهن يقول‏:‏ ‏{‏لا يسرقن‏}‏ والله إني لا أصيب من أبي سفيان إلا قوتنا ما أدري أيحل لي أم لا، فقال أبو سفيان‏:‏ ما أصبت مما مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال‏:‏ «أنت هند»‏؟‏ فقالت عفا اللَّه عما سلف‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ولا يزنين‏}‏ فقالت هند يا رسول الله أو تزني الحرة‏؟‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ولا يقتلن أولادهن‏}‏ لأن العرب كانت تئد البنات، فقالت هند‏:‏ أنت قتلتهم يوم بدر، وأنت وهم أبصر‏.‏

وروى مقاتل أنها قالت‏:‏ ربيناهم صغاراً وقتلتوهم كباراً فأنتم وهم أعلم، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى‏.‏

‏{‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه السحر، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ المشي بالنميمة والسعي في الفساد‏.‏

والثالث‏:‏ وهو قول الجمهور ألا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن لأن الزوجة كانت تلتقط ولداً وتلحقه بزوجها ولداً، ومعنى ‏{‏يفترينه بين أيديهن‏}‏ ما أخذته لقيطاً، ‏{‏وأرجلهن‏}‏ ما ولدته من زنى، وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت‏:‏ والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله، قاله ميمون بن مهران‏.‏

الثاني‏:‏ ما رواه شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعصينك في معروف قال‏:‏ هو النوح‏.‏

الثالث‏:‏ أن من المعروف ألا تخمش وجهها ولا تنشر شعرها ولا تشق جيباً ولا تدعو ويلاً، قاله أسيد بن أبي أسيد‏.‏

الرابع‏:‏ أنه عام في كل معروف أمر الله ورسوله به، قاله الكلبي‏.‏

فروي أن هنداً قالت عند ذلك‏:‏ ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعطيك من شيء وهذا دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المعروف المباح دون المنكر المحظور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم اليهود، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن مسعود‏.‏

الثالث‏:‏ جميع الكفار، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار مِنْ بعث مَنْ في القبور، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس أصحاب القبور بعد المعاينة من ثواب الآخرة لأنهم تيقنوا العذاب، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ قد يئسوا من البعث والرجعة كما يئس منها من مات منهم وقبر‏.‏

الرابع‏:‏ يئسوا أن يكون لهم في الآخرة خير كما يئسوا أن ينالهم من أصحاب القبور خير‏.‏

سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في قوم قالوا‏:‏ لو عملنا أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليه، فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت في قوم كان يقول الرجال منهم‏:‏ قاتلت ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وضربت، ولم يضرب وصبرت، ولم يصبر، وهذا مروي عن عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنها نزلت في المنافقين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا‏.‏

وهذه الآية وإن كان ظاهرها الإنكار لمن قال ما لا يفعل فالمراد بها الإنكار لمن لم يفعل ما قال، لأن المقصود بها القيام بحقوق الالتيام دون إسقاطه‏.‏

‏{‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً‏}‏ مصطفين صفوفاً كالصلاة، لأنهم إذا اصطفوا مثلاً صفين كان أثبت لهم وأمنع من عدوهم‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏

هذا تعليم من الله للمؤمنين‏.‏

‏{‏كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المرصوص الملتصق بعضه إلى بعض لا ترى فيه كوة ولا ثقباً لأن ذلك أحكم في البناء من تفرقه وكذلك الصفوف، قاله ابن جبير، قال الشاعر‏:‏

وأشجر مرصوص بطين وجندل *** له شرفات فوقهن نصائب

والثاني‏:‏ أن المرصوص المبني بالرصاص، قاله الفراء، ومنه قول الراجز‏:‏

ما لقي البيض من الحرقوص *** يفتح باب المغلق المرصوص

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏ وفي الزيغ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه العدول، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الميل، إلا أنه لا يستعمل إلا في الزيغ عن الحق دون الباطل‏.‏

ويحتمل تأويله وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فلما زاغوا عن الطاعة أزاغ الله قلوبهم عن الهداية‏.‏

الثاني‏:‏ فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ قلوبهم عن الكلام‏.‏

وفي المعِنيّ بهذا الكلام ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ المنافقون‏.‏

الثاني‏:‏ الخوارج، قاله مصعب بن سعيد عن أبيه‏.‏

الثالث‏:‏ أنه عام‏.‏

‏{‏ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد‏}‏ وهذه البشرى من عيسى تتضمن أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ تبليغ ذلك إلى قومه ليؤمنوا به عند مجيئه، وذلك لا يكون منه بعد إعلام الله له بذلك إلا عن أمر بتبليغ ذلك إلى أمته‏.‏

الثاني‏:‏ ليكون ذلك من معجزات عيسى عند ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يجوز أن يقتصر عيسى فيه على إعلام الله له بذلك دون أمره بالبلاغ‏.‏

وفي تسمية الله له بأحمد وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنه من أسمائه فكان يسمى أحمد ومحمداً قال حسان‏:‏

صلى الإله ومن يحف بعرشه *** والطيبون على المبارك أحمد

الثاني‏:‏ أنه مشتق من اسمه محمود، فصار الاشتقاق اسماً، كما قال حسان‏:‏

وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

«اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبادة الأصنام، واسمي في الإنجيل أحمد، واسمي في القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض‏.‏»

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الكفار والمنافقون، قاله ابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أنه النضر وهو من بني عبد الدار قال إذا كان يوم القيامة شفعت لي العزى واللات، فأنزل الله هذه الآية، قاله عكرمة‏.‏

‏{‏يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم‏}‏ الآية‏.‏ والإطفاء هو الإخماد، ويستعملان في النار، ويستعاران فيما يجري مجراها من الضياء والنور‏.‏

والفرق بين الإطفاء والإخماد من وجه وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير، والإخماد يستعمل في الكثير دون القليل، فيقال أطفأت السراج ولا يقال أخمدت السراج‏.‏

وفي ‏{‏نور الله‏}‏ ها هنا خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ القرآن، يريدون إبطاله بالقول، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الإسلام، يريدون دفعه بالكلام، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أنه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون هلاكه بالأراجيف، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ أنه حجج الله ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذبيهم، قاله ابن بحر‏.‏

الخامس‏:‏ أنه مثل مضروب، أي من أرد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً فكذلك من أراد إبطال الحق، حكاه ابن عيسى‏.‏

وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف‏:‏

يا معشر اليهود ابشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان الله ليتم أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، فأنزل الله هذه الآية، ثم اتصل الوحي بعدها‏.‏

‏{‏ليظهره على الدين كله‏}‏ الآية‏.‏ وفي الإظهار ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الغلبة على أهل الأديان‏.‏

الثاني‏:‏ العلو على الأديان‏.‏

الثالث‏:‏ العلم بالأديان من قولهم قد ظهرت على سره أي علمت به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب‏}‏ وهذا من الله لزيادة الترغيب، لأنه لما وعدهم بالجنة على طاعته وطاعة رسوله علم أن منهم من يريد عاجل النصر لقاء رغبة في الدنيا ولقاء تأييد الدين فوعدهم بما يقوي به الرغبة فقال‏:‏ ‏{‏وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب‏}‏ يعني فتح البلاد عليه وعليهم، وقد أنجز الله وعده في كلا الأمرين من النصر والفتح‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏قريب‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه راجع إلى ما يحبونه أنه نصر من الله وفتح قريب‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إخبار من الله بأن ما يحبونه من ذلك سيكون قريباً، فكان كما أخبر لأنه عجل لهم الفتح والنصر‏.‏